™ فريق النوارس ... اكبر منتدى عربى شامل ™
™ فريق النوارس ... اكبر منتدى عربى شامل ™
™ فريق النوارس ... اكبر منتدى عربى شامل ™
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

™ فريق النوارس ... اكبر منتدى عربى شامل ™

منتدي  مختلف  مش عادي
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 ابعاد الرؤيه القرانيه في الفكر الخلدوني_2

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
شهد
مشرفة الساحة العامة
مشرفة الساحة العامة
شهد


انثى عدد الرسائل : 217
العمر : 40
   : ابعاد الرؤيه القرانيه في الفكر الخلدوني_2 A2110
تاريخ التسجيل : 12/11/2008

ابعاد الرؤيه القرانيه في الفكر الخلدوني_2 Empty
مُساهمةموضوع: ابعاد الرؤيه القرانيه في الفكر الخلدوني_2   ابعاد الرؤيه القرانيه في الفكر الخلدوني_2 I_icon_minitimeالأحد نوفمبر 23, 2008 11:59 am

3ـ منهج الاستدلال بالقرآن عند ابن خلدون :



لم يكن منهج ابن خلدون في الاستدلال بالقرآن الكريم بعيدا عن منهج من سبقوه من علماء المسلمين في استحضار النص القرآني بين ثنايا السياقات المعرفية المختلفة ، إن في العلوم الشرعية أو في العلوم الكونية.



إلا أن ابن خلدون تفرّد عن غيره في توظيف النص القرآني والإفادة منه في مواطن الحديث عن الملك والسياسة والعصبية والعمران ..وهذا ما لم تألفه الدراسات التي سبقته في هذا الميدان ، وهو من منطلق استناده إلى الوحي المعصوم " فإن فلسفة التاريخ عنده هي النظرة الشمولية إلى التاريخ في حاضره وماضيه ومستقبله ، وهي نظرة تحتاج إلى مصدر متعالِ يمكن الإنسان من إعطاء معنى للتاريخ والنظر إليه نظرة كلية نسبيا ، و النظرة العلمية إلى التاريخ لا تتناقض مع التعالي ، إلا إذا فهم التعالي خارج النزعة الغيبية ، أي بمفهومه المبتذل ، أي خارج جدلية الغيب و الإنسان" (11).



وعلى هذا الأساس يتابع ابن خلدون حركة التاريخ وهو يحلق فوقها فيكتشف مصدرها وعناها ونهايتها ، بل ويتجاوز حدود الحادثة التاريخية وزمانيتها في لحظة واعية محيطة بالحادثة ومستقلة عنها ، وهو نفسه منهج القرآن في التعامل مع قوانين التاريخ وسننه ، فهو لا يخرج عن ثلاث حقائق :



الحقيقة الأولى : هي الاطراد : بمعنى أن السنة التاريخية مطردة ، فهي ليست علاقة عشوائية قائمة على أساس الصدفة والاتفاق ، وإنما هي علاقة ذات طابع موضوعي علمي ، لا تتخلف في الحالات الاعتيادية التي تجري فيها الطبيعة والكون على السنن العامة ، وهذا المنهج يستهدف تربية الإنسان على ذهنية علمية واعية يتصرف في إطارها ومن خلالها مع أحداث التاريخ " ولن تجد لسنة الله تبديلا ، ولن تجد لسنة الله تحويلا " " لا مبدل لكلمات الله".



الحقيقة الثانية : وهي ربانية السنة التاريخية: بمعنى أن كل قانون من قوانين التاريخ هو قرار رباني " سنة الله " " كلمات الله " ونظائرها من التعبير تؤكد هذه الحقيقة ، وهذا التأكيد يستهدف شد الإنسان بالله سبحانه وتعالى ، حتى حينما يريد أن يستفيد من القوانين الموضوعية للكون ، ويستهدف إشعار الإنسان بأن الاستعانة بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونية والاستفادة من مختلف القوانين و السنن المتحكمة في هذه الساحات لا يعني انعزال الإنسان عن الله تعالى ؛ لأن الله يمارس قدرته من خلال هذه السنن ، ولأن هذه السنن والقوانين هي إرادة الله ، وهي ممثلة لحكمة الله وتدبيره في الكون.



وهذا المفهوم لا يساوي ما يسمى بالتفسير الإلهي للتاريخي الذي تبناه عدد كبير من المسيحيين واللاهوتيين من أمثال أغسطين ومن جاء بعده (12).



الحقيقة الثالثة : اختيار الإنسان وإرادته ، و التأكيد على هذه الحقيقة في مجال استعراض سنن التاريخ مهم جدا ، لأن القرآن أكد على أن إرادة الإنسان هي المحور في تسلسل الأحداث و القضايا في قوله تعالى : " إن الله لا يغير ما بقوم حت يغيروا ما بأنفسهم " . " وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءا غدقا " ، " وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا " .

وهذه الآيات توضح أن السنن التاريخية لا تجري من فوق يد الإنسان ، بل تجري من تحت يده ، و النظرية القرآنية لا تفصل الإنسان عن دوره الإيجابي ، ولا تعطل فيه إرادته وحريته واختياره ، وإنما تؤكد أكثر فأكثر مسؤوليته على الساحة التاريخية . (13)



وابن خلدون على مستوى المنهج سارت أبواب مقدمته وفصولها على هذا النسق ، حتى في الفصول التي رصد فيها حقيقة المعاش ووجوه الكسب و الصنائع مبينا معايير قيمة العمل ، نجده ينطلق من رؤية قرآنية واضحة ، فيقول: " اعلم أن الإنسان مفتقر بالطبع إلى ما يقوته ويمونه في حالاته وأطواره ، من لدن نشوئه إلى أشده إلى كبره " والله الغني وأنتم الفقراء " (14) والله سبحانه وتعالى خلق جميع ما في العالم للإنسان وامتنّ به عليه في غير ما آية من كتابه فقال تعالى :

" وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه " (15)، " وسخّر لكم البحر " (16) " وسخّر لكم الفلك (17)



وكثير من شواهده ، ويد الإنسان مبسوطة على العالم وما فيه ، بما جعل الله له من الاستخلاف ، وأيدي البشر منتشرة فهي مشتركة في ذلك ، وما حصل عليه يد هذا امتنع عن الآخر إلا بعوض ، فالإنسان متى اقتدر على نفسه وتجاوز طور الضعف ، سعى في اقتناء المكاسب ، لينفق ما آتاه الله منها في تحصيل حاجاته وضروراته بدافع الأعواض عنها . قال تعالى : " فابتغوا عند الله الرزق " (18)... و السعي إليه إنما يكون بأقدار الله تعالى وإلهامه ، فالكل من عند الله ، فلا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتمول ، لأنه إن كان عملا بنفسه مثل الصنائع فظاهر ، وإن كان مقتنى من الحيوان والنبات والمعدن فلا بد فيه من العمل الإنساني كما تراه ، وإلا لم يحصل ولم يقع به انتفاع" . (19)

وهو هنا يؤكد على أن الحاجات الاقتصادية إنما تستمد قيمتها من مدى ما بذل فيها من عمل ، الأمر الذي ذهبت إليه بعض النظريات المعاصرة في عالم الاقتصاد و العلاقات الإنتاجية ، وهو يرجع لتأكيد مقولته هذه إلى القرآن الكريم .. كما يفعل في كثير من المواقف الأخرى.(20)



ويتحدث في مقدمته عن الفكر بأنه الأداة التي تميز الإنسان عن سائر الحيوانات ، وتمكنه من أداء دوره العمراني في العالم كخليفة عن الله فيه ... وهو هنا يشير إلى ثلاثة أنماط من النشاط العقلي الذي يمارسه الإنسان ، ولا يكاد وهو يتوغل في الموضوع أن يفارق طريقته التي اعتادها : الإحساس الدائم بالحضور الإلهي المستمر في التاريخ ، والاستشهاد بآيات من كتاب الله ، وهما أمران لهما دلالتهما على عمق الحس و الرؤية القرآنية لدى ابن خلدون " .(21) "



قد بينا أن الإنسان من جنس الحيوانات ، وأن الله تعالى ميزه عنها بالفكر الذي جُعل له ، يوقع به أفعاله على انتظام وهو العقل التمييزي ، أو يقتنص به العلم والآراء والمصالح والمفاسد من أبناء جنسه وهو العقل التجريبي ، أو يحصل به في تصور الموجودات غائبا وشاهدا على ما هي عليه وهو العقل النظري ، وهذا الفكر إنما يحصل له بعد كمال الحيوانية فيه ، ويبدأ من التمييز ، فهو قبل التمييز خلو من العلم بالجملة ، معدود من الحيوانات ، لاحق بمبدئه في التكوين من النطفة والعلقة والمضغة ، وما حصل له بعد ذلك فهو بما جعل له الله في مدارك الحس و الأفئدة التي هي الفكر ، قال تعالى في الامتنان علينا : " وجعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة " ( 22) فهو في الحالة الأولى قبل التمييز هيولي فقط لجهله بجميع المعارف ، ثم تستكمل صورته بالعلم الذي يكتسبه بآلاته فتكمل ذاته الإنسانية في وجودها ، وانظر إلى قوله تعالى في مبدأ الوحي إلى نبيه " اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم ، علّم الإنسان ما لم يعلم"( 23)أي أكسبه من العلم ما لم يكن حاصلا له ، بعد أن كان علقة ومضغة ، فقد كشفت لنا طبيعته وذاته ما هو عليه من الجهل الذاتي والعلم الكسبي ، وأشارت إليه الآية الكريمة تقرر فيه الامتنان عليه بأول مراتب وجوده وهي الإنسانية وحالتها الفطرية و الكسبية في أول التنزيل ومبدأ الوحي ، وكان الله عليما حكيما" (24).



وفي ظلال هذه الرؤية المستندة إلى القرآن يقدم ابن خلدون منهجه الصارم الذي يميز بين العلم والجهالة ، والمنطق والخرافة ، ثم يدعم رؤيته بمعطيات علمية واستدلالات منطقية.



4 ـ التفسير الديني لنظرية العصبية في فكر ابن خلدون:

العصبية أداة الحماية والمدافعة والمطالبة ، وهي التي تعطي المجتمع ملامحه وخصوصياته ، وقد تتحول من رابطة سيكولوجية اجتماعية إلى قوة للمواجهة والمطالبة ، ومن ثم تأسيس الملك و الدولة.



ورأي ابن خلدون ـ كما استخلصه الجابري (25) ـ في العصبية هو أن قوة العصبية مستمدة أساسا من الالتحام الذي هو ثمرة النسب ، فإذا أضيف إلى هذا الالتحام الاجتماعي التحام آخر روحي كانت العصبية من القوة بحيث لا يقف أمامها شيء.



ومع إن الدكتور مصطفى الشكعة يندهش كثيرا لما ذهب إليه ابن خلدون في شأن ارتباط وإتمام الدعوة الدينية بالعصبية وأن هذه الدعوة من غير عصبية لا تتم ، وقال : "لو كان ابن خلدون مؤرخا وحسب لالتمسنا له عذرا وقلنا :إنه اجتهاد مؤرخ ، ولكن الحقيقة أن ابن خلدون واحد من كبار فقهاء المسلمين ، مالكي المذهب .." ( 26)، ثم يعود فيذكر : " أن ابن خلدون يفاجئنا برأي ينقض بعض ما ذهب إليه من شأن العصبية فيفرد فصلا في هذا الشأن عنوانه ( إن الدولة العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين )، وهو يقلل من شأن العصبية ، ويرفع من شأن الدين وأثره في النفوس و تجميع القلوب ، وصرفها إلى الحق ورفض الباطل و الإقبال على الله .. فهل قصد ابن خلدون التملص مما قرره بشأن العصبية؟" . (27)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
شهد
مشرفة الساحة العامة
مشرفة الساحة العامة
شهد


انثى عدد الرسائل : 217
العمر : 40
   : ابعاد الرؤيه القرانيه في الفكر الخلدوني_2 A2110
تاريخ التسجيل : 12/11/2008

ابعاد الرؤيه القرانيه في الفكر الخلدوني_2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: ابعاد الرؤيه القرانيه في الفكر الخلدوني_2   ابعاد الرؤيه القرانيه في الفكر الخلدوني_2 I_icon_minitimeالأحد نوفمبر 23, 2008 12:01 pm

والحقيقة أن العصبية مرحلة خاصة ، وظرف حضاري وتاريخي ، والدين يكتنفها و يوجهها في إطارها الحضاري ، إطار " لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم " .( 28) وصلة الإسلام بالعصبية في الفكر الخلدوني إنما هي صلة الروح بالمادة ، فالدين هو الذي يجعل من هذه ( الكائنات القومية ) كائنات قابلة للحضارة ، والفعالية ، والإبداع ، والخروج من مستوى التحديات المناخية و الجغرافية ، والعدوانية القبلية إلى مستوى المشروع العالمي الروحي والعقلي والخلقي والمادي ، والذي يقدم حضارة منفتحة لائقة بإنسانية الإنسان واستخلاف الله له من أجل تحقيق العمران ، وليس في فكر ابن خلدون أي تناقض ، بل هو تدرج فكري يتناغم مع الظروف و الأوضاع . (29)



وتحت عنوان : " إن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها في عددها كتب موضحا كيف تسمو القيم الروحية بالرابطة الاجتماعية الطبيعية الموجودة و القائمة أصلا ، وكيف توجهها إلى الطريق الإنساني السليم " ذلك أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية ، وتفرد الوجهة إلى الحق ، فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساوٍ عندهم .. وهذا كما وقع للعرب في صدر الإسلام في الفتوحات"(30).



فهو يؤكد تضافر العاملين معا : العامل الطبيعي الاجتماعي والعامل الروحي ـ اللذين يراد اصطناع حرب أهلية غير مبررة بينهما اليوم ـ فيقول : " و التغلب إنما يكون بالعصبية واتفاق الأهواء على المطالبة ، وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه ، قال تعالى : " لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم " وسره أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا حصل التنافس ، وفشا الخلاف ، وإذا انصرف إلى الحق اتحدت وجهتها فذهب التنافس وقلّ الخلاف وحسُن التعاون و التعاضد ، واتسع نطاق الكلمة لذلك ، فعظمت الدولة" ( 31)



ذلك أن الرابطة الطبيعية الاجتماعية التي هي ( العصبية ) هي الوعاء الذي يفتقر إلى محتوى يملأه ، وطبيعة هذا الوعاء تتعدد بطبيعة ذلك المحتوى الجوهري الذي ينطوي عليه، وما ذلك المحتوى في نظر ابن خلدون سوى القيم الروحية التي تكون وازعا لعصبية الأمة ومرشدا لحافزها القومي ، لأن هذا الوازع يكون على حد قوله مزيلا للغلظة والأنفة ، ومذمومات الأخلاق ، ودافعا الأمة إلى الأخذ بمحمودها ، فتتألف كلمة القوم لإظهار الحق ، ويتم اجتماعهم ، ويحصل لهم التغلب. (32 ) بل اعتبر ابن خلدون الملك القائم على العصبية وحدها ملكا قائما على القهر ، ورفض الملك القائم على السياسة مجردا من الصبغة الدينية التي نظمتها شريعة السماء في حراسة نور الله في الأرض مستشهدا بقوله تعالى : " ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور " .



وفي أعقد قضايا العصبية و المتعلقة بالجنس العربي نرى ابن خلدون يعقد فصولا كاملة عنهم إزاء بعض معطيات الحملة الشعوبية ضد العروبة والإسلام والتي أخذت تطل برأسها منذ العصر العباسي الأول ، وقد أثارت مقولاته في هذه الفصول العديد من المناقشات والتأويلات ، فجاءت عناوين فصوله عل النحو التالي:



ـ فصل في أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط .( 33)

ـ فصل في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة (35) .

ـ فصل في أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك . (36)

ـ فصل في أن العرب أبعد الناس عن الصنائع(37).

ـ فصل في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم(38).



ويعلق الدكتور عبد الحليم عويس على هذه العناوين بقوله : " وما أظن هذه العناوين غامضة أو تحمل تأويلا .. !وما أظن العلامة ابن خلدون وهو الفقيه المالكي ، وعالم الأصول واللغة عاجزا عن التعبير عن أفكاره بدلالات لغوية محددة ، لاسيما وهو يتكلم في قضية خطيرة تهم شعبا كاملا اختصه الله بالرسالة الخاتمة ، وأنزل بلسانه العربي آخر الكتب السماوية ، وجعله المهيمن عليها ، والمقوم لما داخلها من انحراف فكري و لغوي .. !



ومن الجدير بالذكر أن ابن خلدون عندما قدم هذه العناوين القاطعة الحاسمة التي ذكرناها والتي تربط بوضوح كامل بين ازدهار العنصر العربي بالإسلام ، حين يتمثله فكرا ومنهجا، وبين انحطاطه حين يتخلى عنه ... ولم يكتف بتقديم هذه الأحكام المجملة ، بل قدم لكل عنوان أو حكم أسبابه وتفسيراته التي تبرره " . ( 39)فمثلا عندما يصف العرب بأنهم لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة .. فهو لا يكتفي بهذا بل يقدم حيثيات إضافية لحكمه على العرب : " فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس ، وإن رزقهم في ظلال رماحهم ، وليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه ، بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه ، فإذا تم اقتدارهم على ذلك بالتغلب و الملك ، بطلت السياسة في حفظ أموال الناس و خرب العمران(40) .



و ليس الأمر أمر (طبيعتهم) فقط ، بل إنهم في المستويين الاجتماعي والسياسي لا يصلحون بغير دين ، وهم " متنافسون في الرئاسة ، وقلّ أن يسلم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته ، إلا في الأقل وعلى كره من أجل الحياء ، فيتعدد الحكام منهم و الأمراء ، وتختلف الأيدي على الرعية في الجباية و الأحكام فيفسد العمران و ينتقص(41).



فابن خلدون يرى أن الدين لا يمكن أن ينفصل عن العرب وهم يبنون الملك ويشيدون العمران ، و إلا فسوف يكونون نهبا للتلاحي والتخاصم والاقتتال ، فتضعف شوكتهم ، أو يكونوا تبعا لغيرهم .



فالدين هو الذي يوحدهم ، ويجعلهم ينقادون لأمير أو نبي ، ويعالج أمراضهم الأخلاقية العنصرية ، ويهذب وجدانهم ، ويعطيهم الدافع الحضاري لصناعة الملك و الامتداد في الأرض .(42)



ولم ينكر ابن خلدون سموّ العرب وعظمتهم حين يرتبطون بالإسلام ارتباط عقيدة و إخلاص ودعوة ، وليس ارتباط مصلحة سياسية أو اجتماعية ..وهو يتحدث عن العرب في هذه المرحلة مرحلة ذوبانهم في الإسلام وتبدل طباعهم بالصبغة الدينية فيقول : " وإنما يصيرون إليها ـ أي إلى سياسة الملك ـ بعد انقلاب طباعهم وتبدلها بصبغة دينية تمحو ذلك منهم ، وتجعل الوازع لهم من أنفسهم ، وتحملهم على دفاع الناس بعضهم عن بعض ..واعتبر ذلك بدولتهم في الملة ، لما شيد لهم الدين أمر السياسة بالشريعة ، وأحكامها المراعية لمصالح العمران ، ظاهرا وباطنا ، وتتابع فيها الخلفاء ..عظم حينئذ ملكهم ، وقوي سلطانهم (43).



كان رستم إذا رأى المسلمين يجتمعون للصلاة يقول : أكل عمري كبدي ، يعلم الكلاب الآداب ، ثم إنهم بعد ذلك انقطعت منهم عن الدولة أجيال نبذوا الدين ، فنسوا السياسة ، ورجعوا إلى قفرهم ، وجهلوا شأن عصبيتهم مع أهل الدولة ببعدهم عن الانقياد ، وإعطاء النصفة ، فتوحشوا كما كانوا ، ولم يبق لهم من اسم الملك إلا أنهم من جنس الخلفاء ومن جيلهم ... لكن بعد عهدهم بالسياسة لما نسوا الدين فرجعوا إلى أصلهم من البداوة ، وقد يحصل لهم في بعض الأحيان غلب على الدول المستضعفة كما في المغرب لهذا العهد ، فلا يكون مآله وغايتة إلا تخريب ما يستولون عليه من العمران كما قدمناه " والله يؤتي ملكه من يشاء" (44) .



وهكذا كان ابن خلدون واضحا كل الوضوح في ربط العرب والعروبة بالإسلام صعودا و هبوطا ، يتقدمون به الأمم ، ويفضلون به الخلق ، وهم بدونه أسافل البشر ، وأقلهم شأنا.



فالعصبية بهذا المنظور لُحمتها وسداها التصور الإسلامي الصحيح للملك والدولة والبقاء في هرم الحضارة ، ما بقيت الأمة مصطبغة بصبغة الله " ومن أحسن من الله صبغة لقوم يؤمنون " .



وسوف يظل البون شاسعا بين عرب بالدين وعرب من غيره ، تمكينا وتشرذما ، بقاءَ و فناءَ ..فحين يفقد العرب قواعدهم الروحية والفكرية المتصلة بالوحي فإن الإعصار يجتاح دولتهم ، ويأتي على بنيانهم من القواعد ، ويدفنون في تراب التاريخ على عجل !، أما إذا ارتبط حكمهم بهدايات السماء ، فإن العناية الإلهية تؤيدهم ، وسنن النصر تكون إلى جانبهم ، وهم حينئذ " خير أمة أخرجت للناس"



5ـ الأطوار الثلاثة :

يمتاز فكر ابن خلدون الذي ورد في المقدمة بأنه يرد وفق نظرة شمولية تمزج بين جوانب المعرفة الإنسانية مزجا كاملا ، وينظر للإنسان نظرة عضوية مترابطة ، ثم ينطلق من ذلك إلى النظر في المجتمعات ليجعلها حقلا لتجاربه وتحليلاته ، ويتبع الظواهر الطبيعية التي تحيط بالمجتمع وتؤثر فيه في مختلف أحواله وتتابع أطواره ، في نشأته الأولى في مرحلة البداوة ، وفي استقراره في الحضر ، وفي مرحلة الدولة والمجتمع وما يفضي إلى نضجه ورفاهيته ، وما يؤذن بفساده وانحلاله.



وهو في هذا يرمق الدول التي خبرها مثل دولة المرابطين و الموحدين والمرينيين في المغرب ، وملوك الطوائف في الأندلس ، والطولونيين والإخشيديين والأيوبيين في مصر ، والحمدانيين في حلب ، والبويهيين في العراق وفارس ، ويضع للدول أعمارا كأعمار الأفراد ، تبدأ بالطفولة الغضة ، وتدبُّ مع الشباب الناهض ، ثم تنحدر إلى الشيخوخة العاجزة.



وهذا الفكر ينبع بلا شك من الفقه المتشبع بما ورد في القرآن الكريم من تداول الأيام بين الناس " وتلك الأيام نداولها بين الناس " (45)، " ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " . (46)وهذا التداول هو دليل صدقية السنن التي تضبط حركة التوارث الحضاري من أمة إلى أخرى ، ويضع القيم الضابطة لمسيرة الحياة على أصعدتها المتعددة ، بحيث تكون هذه السنن هي معيار التقويم و التصويب و المراجعة.



والمنهج الخلدوني في استقراء أعمار الدول ، والأسباب التي حكمت نهوضها وسقوطها متوغل في أعماق التاريخ للتعرف على القوانين التي تحكم سيره ، وتضبط حركته ، ليكون ذلك دليلا كافيا على أن التاريخ هو من أهم مصادر المعرفة لهذه القوانين . وهو في هذا متحقق بأوامر الوحي وإرشاده للسير في الأرض ، والنظر في عاقبة الدول والحضارات ، وهذا السير مصدره الأمر القرآني : " أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة ، وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها " . (46 ) " قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، هذا بيان للناس وموعظة للمتقين"(47).



ويقرر ابن خلدون أن للدول أعمارا كأعمار الأشخاص ، بمعنى أنه إذا كان لكل شخص عمر محدد تنتهي عنده حياته ، فإن للدول أعمارا محددة تنتهي بنهايتها ، ويزول سلطانها بانتهاء أيامها ، ونظرية أعمار الدول في الأساس نظرية قرآنية استقى ابن خلدون فكرتها وأساسها من القرآن الكريم الذي كان يحفظه ويفقه شرعته ويعي أحكامه (48)


ويرى ابن خلدون أن عمر الدولة " لا يعدو أعمار ثلاثة أجيال ، والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط ، فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو و النشوء إلى غايته ، قال تعالى :
" حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة " (49)، ثم يكون عمر الدولة مائة وعشرين سنة في المتوسط ، ويعلل ابن خلدون هذا التحرير للأجيال الثلاثة بأن الجيل الأول يكونون على خلق البداوة وخشونتها وتوحشها ، من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد ، فحدهم مرهف ، وجانبهم مرهوب .


أما الجيل الثاني : فقد يتحوّل حالهم بالملك و الترفه من البداوة إلى الحضارة ومن الشظف و الترف و الخصب ، ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به ، وكسل الباقين عن السعي فيه ، ومن عز الاستطالة إلى ذلٍّ الاستكانة ، فتنكسر سورة العصبية بعض الشيء ، وتؤنس منهم المهانة والخضوع ، ولكن يبقى فيهم الكثير من سجايا الجيل الأول مما شاهدوه من اعتزازهم و سعيهم إلى المجد و مراميهم في المدافعة والحماية ، فلا يسعهم ترك ذلك بالكلية ، وإن ذهب منه ما ذهب ، ويكونون على رجاء من مراجعة الأحوال التي كانت للجيل الأول ، أو على ظن من وجودها فيهم" .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
شهد
مشرفة الساحة العامة
مشرفة الساحة العامة
شهد


انثى عدد الرسائل : 217
العمر : 40
   : ابعاد الرؤيه القرانيه في الفكر الخلدوني_2 A2110
تاريخ التسجيل : 12/11/2008

ابعاد الرؤيه القرانيه في الفكر الخلدوني_2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: ابعاد الرؤيه القرانيه في الفكر الخلدوني_2   ابعاد الرؤيه القرانيه في الفكر الخلدوني_2 I_icon_minitimeالأحد نوفمبر 23, 2008 12:02 pm

أما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن .. ويفقدون حلاوة العز والعصبية ويبلغ فيهم الترف غايته بما توصلوا إليه من النعيم وغضارة العيش ، فيصيرون عيالا على الدولة كالنساء والولدان ، يحتاجون للمدافعة عنهم ، بعد أن كانوا هم المدافعين عنها ، فإذا ما تعرضت الدولة للخطر لا يكونون أهلا للمقاومة ، فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستعانة بغيرهم من أهل النجدة ، ويستكثر بالموالي ، ويصطنع من يغني عن الدولة بعض الغناء ، حتى يتأذّن بانقراضها ، فتذهب الدولة بما حملت . " (50)



وابن خلدون توصل إلى توصيف هذه الأجيال الثلاثة للدولة من خلال ما عاينه من أحوال الدويلات التي عاصرها ، وهي في الحقيقة ليست دول بل دويلات ، مما يجعل نظريته مقصورة عليها ، أما الدول الكبرى فأعمارها تخالف القاعدة التي قعدها ابن خلدون .



فالدولة العباسية مثلا عاشت أكثر من خمسة قرون من الزمان ، وإن تقلّص ظلها في بعض فتراتها التاريخية ، والدولة الأموية في الأندلس عاشت أكثر من قرنين ونصف القرن ، وكذلك دولة العبيديين في إفريقية ومصر عاشت نحو من هذا القدر ، وكذلك الدولة العثمانية التي مثلت خلافة المسلمين حتى الحرب العالمية الأول ..



ونعتقد أن قاعدة ابن خلدون في أعمار الدول ذات شقين : الشق الأول : أن للدول أعمارا، وهذا صحيح ، والشق الثاني أن أعمارها محددة بثلاثة أجيال ، وهذا رأي فيه كلام، والأقرب إلى الصواب أنها ثلاثة أطوار أو مراحل و ليست ثلاثة أجيال . (51)طور للنشأة و الميلاد ، وطور للقوة والارتقاء والسيطرة والازدهار ، وطور للتفتت و الانهيار والسقوط.



وقاعدة الأطوار الثلاثة هي قياس كامل على عمر الفرد ومراحل تطوره على ضوء الآية الكريمة : " الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة" .( 52)



وقد وردت هذه الأطوار الثلاثة في عدد من سياقات القرآن ، فالطور الأول : هو نشأة الدولة ومولدها ، وهي تولد قوية صالحة على أطلال دولة فاسدة ، وتظل قوية قائمة ما لم تخالف قوانين النصر و التمكين ، أما إذا انتكست ، واستدبرت وحي السماء ، فإن سنن الإهلاك والاستبدال تحق عليها لا محالة ، " يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " .



وقد جاء هذا القانون في هذا الطور على لسان موسى عليه السلام : " عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم فينظر كيف تعملون" (53).



أما الطور الثاني فهو طور القوة والتألق والترف و الرخاء والاستخلاف الذي لا يتم إلا بتحقق الفكرة الرسالية التي تنتظم في فلكها شبكة من العلاقات والقيم والمفاهيم ، وهو طور مستمد من قوله تعالى : " وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " . ( 54)والقرية هنا بمعنى الدولة التي تشهد الأمن ورغد العيش ، وتساق إليها النعم والأرزاق من حيث لا تحتسب .



والرزق الذي ينعم به على القوم ليس هو القوة المادية فقط في المنظور القرآني ، لأن الرزق المادي ليس دليلا على العافية الحضارية ، أو آية عن الرضا الإلهي " بل قد تكون تلك القوة هي جرثومة (المرض الخبيث )وكفى به مرضا أنه يحجب هؤلاء عن الرؤية الحقيقية للتاريخ ومصارع الغابرين ، ويعزلهم عن مصدر القوة الحقيقي الكامن في الإيمان و العاصم من الكفر (55) .



قال تعالى " أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض ، فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق"(56) .



أي ليس لهم عاصم يعصمهم عن قانون الإهلاك الذي يحق على من أفلست عنده القيم الموجهة للاستخلاف ، المحتضنة لأسباب بقائه .



ولقد تحدث القرآن الكريم أن الحضارة أو المجتمع أو الأمة قد يحين هلاكها ، وهي في أوج القوة المادية ، سوى أن الروح الداخلية التي تسري في ذلك منعدمة ، وبالتالي فإن انهيار تلك القوة يكون مدمرا و ساحقا ، قال تعالى : " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ، فقُطع دابر القوم الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين . (57 )



فهذا النص القرآني يصور مشهد أمة من الأمم أعرضت عن ذكر الله ، وتنكرت لشرائعه وشعائره ، وارتمت في أحضان النعيم تعب منه ، وتتبسط فيه ، وتتفنن في تحصيله ، وهي تناله بلا طول عناء ولا كد ولا حتى محاولة !! . " وقد خلت قلوبهم من الاختلاج بذكر المنعم ومن خشيته وتقواه ، وانحصرت اهتماماتهم في لذائذ المتاع و استسلموا للشهوات ، وخلت حياتهم من الاهتمامات الكبيرة ، كما هي عادة المستغرقين في اللهو والمتاع ، وتبع ذلك فساد النظم والأوضاع ، بعد فساد القلوب والأخلاق ، وجرّ هذا وذلك إلى نتائجه الطبيعية من فساد الحياة كلها ..عندئذ جاء موعد السنة التي لا تتبدل (58)



وفي مواضع كثيرة من القرآن يكثر الحديث عن الترف ودوره في دمار الدول وانحلالها وفساد الأخلاق وذهابها ، لذلك يعقد ابن خلدون فصلا بعنوان : " فصل في أنه إذا استحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد ، وحصول الترف و الدعة أقبلت الدولة على الهرم ".(59 )جاء فيه : " فالترف مفسد للخُلق بما يحصل في النفس من ألوان الشر والسفسفة وعوائدها ..فتذهب منهم خلال الخير التي كانت علامة على الملك ودليلا عليه ، ويتصفون بما يناقضها من خلال الشر ، فتكون علامة على الإدبار و الانقراض ..وتأخذ الدولة مبادئ العطب وتتضعضع أحوالها ، وتنزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يقضى عليها . (60)



وقد سلط القرآن الأضواء على زوايا مختلفة من مسألة الترف ليفضح الدور المدمر الذي تلعبه هذه الظاهرة في ذهاب الدول وخراب العمران ، لذلك يرى القرآن وجود الطبقات المترفة خطرا داهما لا يفتأ يتهدد الحياة الإنسانية ، ويملأ مستقبلها بالغيوم والرجوم .



ويرى أن تأمين الشعوب على سعادتها وحقها يتطلب اتخاذ الوسائل الممكنة للحيلولة دون ظهور الترف و المترفين .(61 ) " و القرآن يعتبر الترف آية كبرى على الشروع في السقوط ، لما يستدعيه الترف من أجواء اجتماعية موبوءة ، ومستوى روحي فارغ وطيء ، والتزام أخلاقي لا يكاد يذكر ، وامتلاء كبير بالنظرة المادية والشهوات ، وفراغ كلي من المبادئ و الاهتمامات البدائية ..ونظرة سطحية ظاهرة لرسالة الإنسان في الوجود والترف فوق هذا كله إهدار للطاقة المادية والعقلية للأمة والمجتمع، واستنزاف للقوة المبدعة في ما لا طائل من ورائه ، ولن يتسنى للمترفين أن يصلوا بالمجتمع إلى هذا الدرك من الانحطاط إلا إذا كانوا فاسقين ،أي خارجين عن منظومة الضوابط الأخلاقية والعرفية و القانونية للمجتمع ، لما يحسونه في أنفسهم أنهم أكبر من ذلك كله . (62)



كما أن الترف شيخوخة مبكرة ، يفقد الأمة مشاعر التحدي ، والتحدي هو أبرز مواقف القوة في حياة الإنسان ، يشحذ العزائم ويولد الطاقات ، ويوقظ القدرات ، ويجعل الإنسان شحنة من لهب تحرق التخاذل ، وتوقد مشاعل الطاقة ، لكي يكون أداة التغيير في المجتمع ، يبني ويشيد ويعلي البناء ، حتى يكون ما ينجزه عظيم الأثر . (63)



وهذا الذي يعلله ابن خلدون بقوله : " وذلك أن الأمة إذا تغلبت وملكت ما بأيدي أهل الملك قبلها كثر رياشها ونعمتها فتكثر عوائدهم ، ويتجاوزون ضرورات العيش وخشونته إلى نوافله ورقته وزينته ، ويذهبون إلى اتباع من قبلهم في عوائدهم وأحوالهم ، وتصير لتلك النوافل عوائد ضرورية في تحصيلها ، وينزعون مع ذلك إلى رقة الأحوال في المطاعم والملابس والفرش والآنية ، ويتفاخرون في ذلك ويفاخرون فيه غيرهم من الأمم في أكل الطيب ولبس الأنيق وركوب الفاره ، ويناغي خلفهم في ذلك سلفهم إلى آخر الدولة (64)



وظاهرة (التكاثر الشيئي ) هذه التي يشير إليها ابن خلدون هو ما عناه القرآن الكريم في سورة التكاثر التي تحذرنا من المصير المشئوم : " ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ، كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون ، كلا لو تعلمون علم اليقين ، لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ، ثم لتسألن يومئذ عن النعيم" .



والتكاثر في عالم الأشياء يمتص الطاقة الروحية ، ويجعل المترفين يمردون على الغرور والانتفاخ الذي يصل إلى درجة الاستخفاف : وهو تجريد الناس من كل ما يجعلهم ذوي قيمة ووزن وحضور في الشأن اليومي المصيري للمجتمع ، ليصيروا في مرتبة الأشياء قيمة ونزوعا . (65)



وفي ضوء هذا يفهم قوله تعالى ـ واصفا الفرعونية الباغية كيف تسعى إلى تنميط فكر الجماهير وقولبته وفق رؤيتها حتى تواليهم ، وتدخل في طاعتهم ، وتذعن لأوامرهم ، وتسخرهم لأغراضهم الدنيئة ـ " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمرناها تدميرا" (66) .



"والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة ، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة ، حتى تترهل نفوسهم وتأسن ، وترتع في الفسق والمجانة ، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات ، وتلغ في الأعراض والحرمات ، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادا ، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش إلا بها ولها ، ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي ، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها ، فتهلك وتطوى صفحتها .(67)



وكل هذه المظاهر هي الممهدة للطور الثالث ، وهو طور الإهلاك والإفناء الذي لا يرتفع حتى يقع في موعده المحدد ، ويصدق وعيده المقرر . " وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا (. (68 وابن خلدون يؤكد حتمية سقوط الدولة في فصل خاص بعنوان " إن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع " (69)وربما يحدث عند آخر الدولة قوة توهم أن الهرم قد ارتفع عنها ويومض ذبالها إيماضة الخمود ، كما يقع في الذبال المشتعل فإنه مقاربة انطفائه يومض إيماضة توهم أنها اشتعال وهي انطفاء" .



وما يلبث ابن خلدون أن يلتقي كعادته بآية من كتاب الله تعزّز الوجهة التي ذهب إليها " فاعتبر ذلك ، ولا تغفل سرّ الله تعالى وحكمته في اطراد وجوده على ما قدّر فيه " ولكل أجل كتاب " ، " وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ، ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون".



ولكن مسألة الحتمية في سقوط الدولة هو ما يمكن أن نسميه من وجهة النظر القرآنية (بالحتمية التفاؤلية ) ، لأنه بإمكان أي أمة بعد سقوطها أن تعود باستمرار لكي تنشئ دولة أخرى ، أو تمارس تجربة جديدة ، ما دامت ترتبط بالقيم السماوية المعصومة ، وتتحقق بأسباب الوقاية الحضارية من إصابات السقوط
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
شهد
مشرفة الساحة العامة
مشرفة الساحة العامة
شهد


انثى عدد الرسائل : 217
العمر : 40
   : ابعاد الرؤيه القرانيه في الفكر الخلدوني_2 A2110
تاريخ التسجيل : 12/11/2008

ابعاد الرؤيه القرانيه في الفكر الخلدوني_2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: ابعاد الرؤيه القرانيه في الفكر الخلدوني_2   ابعاد الرؤيه القرانيه في الفكر الخلدوني_2 I_icon_minitimeالأحد نوفمبر 23, 2008 12:02 pm

الهوامش :

  • قسم التاريخ /جامعة الأمير عبد القادر ـ قسنطينة ـ الجزائر


(1) ـ رفعت السيد العوضي . تراث المسلمين العلمي في الاقتصاد . ط1، دبي : دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث ، 2005م . ص77، 78.

(2) ـ المرجع نفسه . ص95ـ 96.

(3) ـ انظر : عماد الدين خليل . ابن خلدون إسلاميا . ط3، بيروت : المكتب الإسلامي ، 1985م ص6.

(4) ـ سهيلة زين العابدين . مجلة المنار . عدد 75، 76،77، 1424هـ

(5) ـ محمد عابد الجابري . العصبية و الدولة . . معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي ط3، بيروت : دار الطليعة ، 1982م ، عبد الحليم عويس ، التأصيل الإسلامي لنظريات ابن خلدون . ط1، قطر : كتاب الأمة ، 1996م ، ص43ـ 44.

(6) ـ الخلدونية في مرآة فلسفة التاريخ . مجلة الاجتهاد ، عدد22، السنة السادسة ، 1414هـ ، ص133.

(7) ـ محمد الداودي . العوامل الذاتية لميلاد الفكر الريادي الخلدوني في ضوء علم الإبداع الحديث . مجلة التجديد ، السنة الأولى ـ يناير 1997م ، رمضان 1417هـ ، ص65.

(Cool ـ عماد الدين خليل . ابن خلدون إسلاميا . مرجع سابق ، ص8.

(9) ـ مصطفى صادق الرافعي . إعجاز القرآن و البلاغة النبوية . بيروت : دار الكتاب اللبناني ، د، ت ، ص118ـ 119.

(10) ـ عمر عبيد حسنة . مقدمة كتاب كيف نتعامل مع القرآن ، مدارسة مع الشيخ محمد الغزالي . القاهرة : نهضة مصر ، 2005م ص18.

(11) ـ غسان علي عثمان .مقدمة في فلسفة التاريخ من منظور إسلامي .Kitabat@Kitabat.com

(12) ـ الاتجاه اللاهوتي للتفسير الإلهي يتناول الحادثة نفسها ، ويربط هذه الحادثة بالله قاطعا صلتها مع بقية الحوادث ، أما القرآن فهو لا يسبغ الطابع الغيبي على الحادثة بالذات ، ولا ينتزع الحادثة التاريخية من سياقها ليربطها بالسماء ولا يطرح صلة الحادثة بالسماء كبديل عن العلاقات والأسباب و المسببات القائمة على هذه الساحة التاريخية ، بل إنه يربط السنة التاريخية بالله ، ويربط أوجه العلاقات والارتباطات بالله ، وهي تعبير عن حكمة الله وحسن تقديره .

(13) ـ انظر : محمد باقر الصدر . السنن التاريخية في القرآن . دار التعاون للمطبوعات ، 1989م ، ص67ـ 71، مرتضى مطهري . المجتمع و التاريخ . بيروت : دار المرتضى ، 1993م ، ص333ـ 339.

(14) ـ سورة محمد ، الآية 38.

(15) ـ سورة الجاثية ، الآية 13.

(16) ـ سورة الجاثية ، الآية 12.

(17) ـ سورة إبراهيم ، الآية 32.

(18) ـ سورة العنكبوت ، الآية 17.

(19) ـ المقدمة . ص362ـ 363.

(20) ـ عماد الدين خليل .ابن خلدون إسلاميا . مرجع سابق ، ص44.

(21) ـ المرجع نفسه . ص118.

(22)- سورة النحل . الآية 78.

((23 ـ سورة القلق . الآية 1 ـ 5.

(24) ـ المقدمة . ص453 ـ 454.

(25) ـ محمد عابد الجابري . العصبية و الدولة. مرجع سابق ، ص290.

(26) ـ الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته . ط2، القاهرة : الدار المصرية اللبنانية ، 1988م ، ص148.

(27) ـ المرجع نفسه . ص149.

(28) ـ سورة الأنفال . ص63

(29) ـ عبد الحليم عويس . التأصيل الإسلامي لنظريات ابن خلدون . ط1، الدوحة : منشورات كتاب الأمة ، 1996م ، ص124ـ 125.

(30) ـ المقدمة . ص159.

(31) ـ المصدر نفسه .

(32) ـ انظر : محمد جابر الأنصاري . العروبة و الإسلام في الفكر الخلدوني . Google.Iben khaldoun

(33) ـ المقدمة . ص151.

(34) ، المصدر نفسه .

(35) ـ المصدر نفسه . ص156.

(36) ـ المصدر نفسه .

(37) ـ المصدر نفسه . ص384.

(38) ـ المصدر نفسه ص561.

(39) ـ عبد الحليم عويس . التأصيل الإسلامي ..مرجع سابق . ص126ـ 127.

(40) ـ المقدمة . ص152.

(41) ـ المصدر نفسه .

(42) ـ عويس . التأصيل الإسلامي ..مرجع سابق ، ص128.

(43) ـ المقدمة . ص154.

(44) ـ سورة آل عمران . الآية 140.

(45) ، سورة يونس . الآية 49.

(46) ـ سورة الروم . الآية 09.

(47) ـ سورة آل عمران . الآية 137 ـ 138.

(48) ـ مصطفى الشكعة . الأسس الإسلامية ..مرجع سابق ، ص79.

(49) ـ سورة الأحقاف . الآية 15.

(50) ـ المقدمة . ص170 ـ 172.

(51) ـ مصطفى الشكعة . الأسس الإسلامية ...مرجع سابق ، ص68.

(52) ـ سورة الروم ، الآية 54.

(53) ـ سورة الأعراف . الآية 129.

(54) ـ سورة النحل . الآية 112.

(55) ـ عيسى الحيلح . الجدلية التاريخية في القرآن الكريم . (رسالة دكتوراه غير منشورة ) ، قسم اللغة والدراسات القرآنية ، جامعة الأمير عبد القادر ، قسنطينة، 2005م .

(56) ـ سورة غافر . الآية 21.

(57) ـ سورة الأنعام . الآية 44 ـ 45.

(58) ـ في ظلال القرآن . مج 2، الجزء 7، ص1090.

(59) ـ المقدمة . ص169.

(60) ـ المصدر نفسه . ص170.

(61) ـ محمد الغزالي . الإسلام والأوضاع الاقتصادية . مكتبة رحاب ، الجزائر ، ص48.

(62) ـ عيسى الحيلح . الجدلية التاريخية ..مرجع سابق ، ص299.

(63) ـ انظر : محمد فاروق النبهان . الفكر الخلدوني من خلال المقدمة . ط1، بيروت : مؤسسة الرسالة ، 1998م ، ص273. .

(64) ، المقدمة . ص168.

(65 ) ـ عيسى الحيلح . المرجع السابق . ص300.

(66) ـ سورة الإسراء .الآية 16.

(67) ـ في ظلال القرآن . مج4، الجزء 15، ص2217.

(68) ـ سورة الكهف . الآية 59. (69) ـ المقدمة . ص278.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
ابعاد الرؤيه القرانيه في الفكر الخلدوني_2
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
™ فريق النوارس ... اكبر منتدى عربى شامل ™ :: o.O ( الساحه العامه المفتوحه ) O.o  :: |:| ذاكرة التاريخ |:|
-
انتقل الى: