3ـ منهج الاستدلال بالقرآن عند ابن خلدون :
لم يكن منهج ابن خلدون في الاستدلال بالقرآن الكريم بعيدا عن منهج من سبقوه من علماء المسلمين في استحضار النص القرآني بين ثنايا السياقات المعرفية المختلفة ، إن في العلوم الشرعية أو في العلوم الكونية.
إلا أن ابن خلدون تفرّد عن غيره في توظيف النص القرآني والإفادة منه في مواطن الحديث عن الملك والسياسة والعصبية والعمران ..وهذا ما لم تألفه الدراسات التي سبقته في هذا الميدان ، وهو من منطلق استناده إلى الوحي المعصوم " فإن فلسفة التاريخ عنده هي النظرة الشمولية إلى التاريخ في حاضره وماضيه ومستقبله ، وهي نظرة تحتاج إلى مصدر متعالِ يمكن الإنسان من إعطاء معنى للتاريخ والنظر إليه نظرة كلية نسبيا ، و النظرة العلمية إلى التاريخ لا تتناقض مع التعالي ، إلا إذا فهم التعالي خارج النزعة الغيبية ، أي بمفهومه المبتذل ، أي خارج جدلية الغيب و الإنسان" (11).
وعلى هذا الأساس يتابع ابن خلدون حركة التاريخ وهو يحلق فوقها فيكتشف مصدرها وعناها ونهايتها ، بل ويتجاوز حدود الحادثة التاريخية وزمانيتها في لحظة واعية محيطة بالحادثة ومستقلة عنها ، وهو نفسه منهج القرآن في التعامل مع قوانين التاريخ وسننه ، فهو لا يخرج عن ثلاث حقائق :
الحقيقة الأولى : هي الاطراد : بمعنى أن السنة التاريخية مطردة ، فهي ليست علاقة عشوائية قائمة على أساس الصدفة والاتفاق ، وإنما هي علاقة ذات طابع موضوعي علمي ، لا تتخلف في الحالات الاعتيادية التي تجري فيها الطبيعة والكون على السنن العامة ، وهذا المنهج يستهدف تربية الإنسان على ذهنية علمية واعية يتصرف في إطارها ومن خلالها مع أحداث التاريخ " ولن تجد لسنة الله تبديلا ، ولن تجد لسنة الله تحويلا " " لا مبدل لكلمات الله".
الحقيقة الثانية : وهي ربانية السنة التاريخية: بمعنى أن كل قانون من قوانين التاريخ هو قرار رباني " سنة الله " " كلمات الله " ونظائرها من التعبير تؤكد هذه الحقيقة ، وهذا التأكيد يستهدف شد الإنسان بالله سبحانه وتعالى ، حتى حينما يريد أن يستفيد من القوانين الموضوعية للكون ، ويستهدف إشعار الإنسان بأن الاستعانة بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونية والاستفادة من مختلف القوانين و السنن المتحكمة في هذه الساحات لا يعني انعزال الإنسان عن الله تعالى ؛ لأن الله يمارس قدرته من خلال هذه السنن ، ولأن هذه السنن والقوانين هي إرادة الله ، وهي ممثلة لحكمة الله وتدبيره في الكون.
وهذا المفهوم لا يساوي ما يسمى بالتفسير الإلهي للتاريخي الذي تبناه عدد كبير من المسيحيين واللاهوتيين من أمثال أغسطين ومن جاء بعده (12).
الحقيقة الثالثة : اختيار الإنسان وإرادته ، و التأكيد على هذه الحقيقة في مجال استعراض سنن التاريخ مهم جدا ، لأن القرآن أكد على أن إرادة الإنسان هي المحور في تسلسل الأحداث و القضايا في قوله تعالى : " إن الله لا يغير ما بقوم حت يغيروا ما بأنفسهم " . " وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءا غدقا " ، " وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا " .
وهذه الآيات توضح أن السنن التاريخية لا تجري من فوق يد الإنسان ، بل تجري من تحت يده ، و النظرية القرآنية لا تفصل الإنسان عن دوره الإيجابي ، ولا تعطل فيه إرادته وحريته واختياره ، وإنما تؤكد أكثر فأكثر مسؤوليته على الساحة التاريخية . (13)
وابن خلدون على مستوى المنهج سارت أبواب مقدمته وفصولها على هذا النسق ، حتى في الفصول التي رصد فيها حقيقة المعاش ووجوه الكسب و الصنائع مبينا معايير قيمة العمل ، نجده ينطلق من رؤية قرآنية واضحة ، فيقول: " اعلم أن الإنسان مفتقر بالطبع إلى ما يقوته ويمونه في حالاته وأطواره ، من لدن نشوئه إلى أشده إلى كبره " والله الغني وأنتم الفقراء " (14) والله سبحانه وتعالى خلق جميع ما في العالم للإنسان وامتنّ به عليه في غير ما آية من كتابه فقال تعالى :
" وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه " (15)، " وسخّر لكم البحر " (16) " وسخّر لكم الفلك (17)
وكثير من شواهده ، ويد الإنسان مبسوطة على العالم وما فيه ، بما جعل الله له من الاستخلاف ، وأيدي البشر منتشرة فهي مشتركة في ذلك ، وما حصل عليه يد هذا امتنع عن الآخر إلا بعوض ، فالإنسان متى اقتدر على نفسه وتجاوز طور الضعف ، سعى في اقتناء المكاسب ، لينفق ما آتاه الله منها في تحصيل حاجاته وضروراته بدافع الأعواض عنها . قال تعالى : " فابتغوا عند الله الرزق " (18)... و السعي إليه إنما يكون بأقدار الله تعالى وإلهامه ، فالكل من عند الله ، فلا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتمول ، لأنه إن كان عملا بنفسه مثل الصنائع فظاهر ، وإن كان مقتنى من الحيوان والنبات والمعدن فلا بد فيه من العمل الإنساني كما تراه ، وإلا لم يحصل ولم يقع به انتفاع" . (19)
وهو هنا يؤكد على أن الحاجات الاقتصادية إنما تستمد قيمتها من مدى ما بذل فيها من عمل ، الأمر الذي ذهبت إليه بعض النظريات المعاصرة في عالم الاقتصاد و العلاقات الإنتاجية ، وهو يرجع لتأكيد مقولته هذه إلى القرآن الكريم .. كما يفعل في كثير من المواقف الأخرى.(20)
ويتحدث في مقدمته عن الفكر بأنه الأداة التي تميز الإنسان عن سائر الحيوانات ، وتمكنه من أداء دوره العمراني في العالم كخليفة عن الله فيه ... وهو هنا يشير إلى ثلاثة أنماط من النشاط العقلي الذي يمارسه الإنسان ، ولا يكاد وهو يتوغل في الموضوع أن يفارق طريقته التي اعتادها : الإحساس الدائم بالحضور الإلهي المستمر في التاريخ ، والاستشهاد بآيات من كتاب الله ، وهما أمران لهما دلالتهما على عمق الحس و الرؤية القرآنية لدى ابن خلدون " .(21) "
قد بينا أن الإنسان من جنس الحيوانات ، وأن الله تعالى ميزه عنها بالفكر الذي جُعل له ، يوقع به أفعاله على انتظام وهو العقل التمييزي ، أو يقتنص به العلم والآراء والمصالح والمفاسد من أبناء جنسه وهو العقل التجريبي ، أو يحصل به في تصور الموجودات غائبا وشاهدا على ما هي عليه وهو العقل النظري ، وهذا الفكر إنما يحصل له بعد كمال الحيوانية فيه ، ويبدأ من التمييز ، فهو قبل التمييز خلو من العلم بالجملة ، معدود من الحيوانات ، لاحق بمبدئه في التكوين من النطفة والعلقة والمضغة ، وما حصل له بعد ذلك فهو بما جعل له الله في مدارك الحس و الأفئدة التي هي الفكر ، قال تعالى في الامتنان علينا : " وجعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة " ( 22) فهو في الحالة الأولى قبل التمييز هيولي فقط لجهله بجميع المعارف ، ثم تستكمل صورته بالعلم الذي يكتسبه بآلاته فتكمل ذاته الإنسانية في وجودها ، وانظر إلى قوله تعالى في مبدأ الوحي إلى نبيه " اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم ، علّم الإنسان ما لم يعلم"( 23)أي أكسبه من العلم ما لم يكن حاصلا له ، بعد أن كان علقة ومضغة ، فقد كشفت لنا طبيعته وذاته ما هو عليه من الجهل الذاتي والعلم الكسبي ، وأشارت إليه الآية الكريمة تقرر فيه الامتنان عليه بأول مراتب وجوده وهي الإنسانية وحالتها الفطرية و الكسبية في أول التنزيل ومبدأ الوحي ، وكان الله عليما حكيما" (24).
وفي ظلال هذه الرؤية المستندة إلى القرآن يقدم ابن خلدون منهجه الصارم الذي يميز بين العلم والجهالة ، والمنطق والخرافة ، ثم يدعم رؤيته بمعطيات علمية واستدلالات منطقية.
4 ـ التفسير الديني لنظرية العصبية في فكر ابن خلدون:
العصبية أداة الحماية والمدافعة والمطالبة ، وهي التي تعطي المجتمع ملامحه وخصوصياته ، وقد تتحول من رابطة سيكولوجية اجتماعية إلى قوة للمواجهة والمطالبة ، ومن ثم تأسيس الملك و الدولة.
ورأي ابن خلدون ـ كما استخلصه الجابري (25) ـ في العصبية هو أن قوة العصبية مستمدة أساسا من الالتحام الذي هو ثمرة النسب ، فإذا أضيف إلى هذا الالتحام الاجتماعي التحام آخر روحي كانت العصبية من القوة بحيث لا يقف أمامها شيء.
ومع إن الدكتور مصطفى الشكعة يندهش كثيرا لما ذهب إليه ابن خلدون في شأن ارتباط وإتمام الدعوة الدينية بالعصبية وأن هذه الدعوة من غير عصبية لا تتم ، وقال : "لو كان ابن خلدون مؤرخا وحسب لالتمسنا له عذرا وقلنا :إنه اجتهاد مؤرخ ، ولكن الحقيقة أن ابن خلدون واحد من كبار فقهاء المسلمين ، مالكي المذهب .." ( 26)، ثم يعود فيذكر : " أن ابن خلدون يفاجئنا برأي ينقض بعض ما ذهب إليه من شأن العصبية فيفرد فصلا في هذا الشأن عنوانه ( إن الدولة العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين )، وهو يقلل من شأن العصبية ، ويرفع من شأن الدين وأثره في النفوس و تجميع القلوب ، وصرفها إلى الحق ورفض الباطل و الإقبال على الله .. فهل قصد ابن خلدون التملص مما قرره بشأن العصبية؟" . (27)